فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُواْ}.
فيه خمسةُ أوجه، أحدهما:- وهو الظاهر- أنَّ {مِنْ} متعلقة بقوله: {أخذنا} والتقدير الصحيح فيه أن يقال: تقديرُه: «وأَخَذْنا من الذين قالوا: إنَّا نصارى ميثاقهم».
فتوقع {الذين} بعد {أَخَذْنا} وتؤخِّر عنه {ميثاقهم} ولا يجوز أن تقدِّر «وأَخَذْنا ميثاقَهم من الذين» فتقدم {ميثاقَهم} على {الذين قالوا} وإنْ كان ذلك جائزًا من حيثُ كونُهما مفعولين، كلُّ منهما جائزُ التقديم والتأخيرِ، لأنه يلزم عودُ الضميرِ على متأخر لفظًا ورتبة، وهو لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، نصَّ على ذلك جماعةٌ منهم مكي وأبو البقاء الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ قامَتْ صفتُه مَقامه، والتقدير: «ومن الذين قالوا إنّا نصارى قومٌ أخذنا ميثاقهم» فالضمير في {ميثاقهم} يعود على ذلك المحذوف. والثالث: أنه خبر مقدم أيضًا، ولكن قَدَّروا المبتدأ موصولًا حُذِف وبقيت صلتُه، والتقدير: «ومن الذين قالوا: إنَّا نصارى مَنْ أخذنا ميثاقهم» فالضمير في {ميثاقهم} عائد على {مَنْ} والكوفيون يجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدم لنا معهم البحث في ذلك. ونقل مكي مذهب الكوفيين هذا، وقَدَّره عندهم: «ومن الذين قالوا: إنَّ نصارى مَنْ أخذنا» وهذا التقدير لايؤخذ منه أن المحذوف موصول فقط، بل يجوز أن تكونَ «مَنْ» المقدرةُ نكرةً موصوفةً حُذِفت وبقيت صفتُها، فيكون كالمذهب الأول. الرابع: أن تتعلِّق {مِنْ} ب {أخذنا} كالوجه الأول، إلا أنه لا يلزَمُ فيه ذلك التقديرُ، وهو أن توقع {من الذين} بعد {أخذنا} وقبل {ميثاقهم}، بل يجوز أن يكون التقدير على العكسِ، بمعنى أنَّ الضميرَ في {ميثاقهم} يعودُ على بني إسرائيل، ويكون المصدرُ من قوله: {ميثاقهم} مصدرًا تشبيهيًا، والتقدير: وأخذنا من النصارى ميثاقًا مثلَ ميثاق بني إسرائِيل كقولك: «أخَذْتُ من زيد ميثاق عمرو» أي: ميثاقًا مثل ميثاق عمرو، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري فإنه قال: أَخَذْنا من النصارى ميثاقَ مَنْ ذُكِر قبلَهم من قوم موسى أي: مثل ميثاقِهم بالإِيمان بالله والرسل. الخامس: أنَّ {من الذين} معطوف على {منهم} من قوله تعالى: {ولا تزال تَطَّلِعُ على خائنةٍ منهم} أي: من اليهود، والمعنى: ولا تزال تَطَّلع على خائنةٍ من اليهود ومن الذين قالوا إنَّا نصارى، ويكون قوله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} على هذا مستأنفًا. وهذا ينبغي ألاَّ يجوز لوجهين، أحدهما: الفصلُ غيرُ المغتفر. والثاني: أنه تهيئةٌ للعامل في شيء وقطعه عنه، وهو لا يجوز.
قوله: {بَيْنَهُمُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه ظرفٌ ل {أغرينا}. والثاني: أنه حالٌ من {العداوة} فيتعلق بمحذوف، ولا يجوز أن يكون ظرفًا للعداوة، لأنَّ المصدر لا يتقدم معموله عليه. و{إلى يوم القيامة} أجاز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بأغرينا، أو بالعداوة، أو بالبغضاء، أي: أغرينا إلى يوم القيامة بينهم العداوة والبغضاء، أو أنهم يتعادَون إلى يوم القيامة، أو يتباغضون إلى يوم القيامة. وعلى مأ أجازه أبو البقاء تكونُ المسألةُ من باب الإعمال، ويكون قد وُجد التنازع بين ثلاثة عوامل، ويكون من إعمال الثالث للحذف من الأول والثاني، وتقدم تحرير ذلك. و{أغرينا} مِنْ أغراه بكذا أي: ألزمه إياه، وأصلُه من الغِراء الذي يُلْصَقُ به ولامه واو، فالأصل: أَغْرَوْنا، وإنما قُلِبت الواو ياء لوقوعها رابعة كأغوينا، ومنه قولُهم: «سَهْمٌ مَغْرُوُّ» أي معمول بالغِراء، يقال غَرِيَ بكذا يَغْرى غَرَاء وغِراء، فإذا أريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة، فقيل: «أغريته بكذا». والضميرُ في {بينهم} يحتمل أن يعود على {الذين قالوا إنَّا نصارى} وأن يعودَ على اليهود المتقدمين الذكر، وبكلٍ قال جماعةٌ، وهذا الكلامُ معطوف على الكلام قبله من قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} أي: ولقد أخذ اللّهُ ميثاقَ بين إسرائيل، وأخذنا مِنَ الذين قالوا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (15):

قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما علم بذلك كله أحوال الفريقين، أقبل عليهم واعظًا مناديًا متلطفًا مستعطفًا مرغبًا مرهبًا فقال: {يا أهل الكتاب} أي عامة {قد جاءكم رسولنا} أي الذي أرسلناه مما لنا من العظمة فليظهرن بذلك على من ناواه {يبين لكم} أي يوضح إيضاحًا شافيًا {كثيرًا مما كنتم} أي بما لكم من جبلة الشر والخيانة {تخفون من الكتاب} أي العظيم المنزل عليكم، من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وحكم الزنا وغيرهما، لإحياء سنة وإماتة بدعة- كما مضى منه ما شاء الله في سورة البقرة، وذلك دال بلا شبهة على صحة رسالته {ويعفوا عن كثير} أي فلا يفضحكم بإظهاره امتثالًا لأمرنا له بذلك- كما تقدم أنه إحسان منه صلى الله عليه وسلم إليكم، لأنه لا فائدة في إظهاره إلا فضيحتكم.
ولما أخبر عن فصله للخفايا، وكان التفصيل لا يكون إلا بالنور، اقتضى الحال توقع الإخبار بأنه نور، فقال مفتتحًا بحرف التوقيع والتحقيق: {قد جاءكم} وعظمه بقوله معبرًا بالاسم الأعظم: {من الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {نور} أي واضح النورية، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كشف ظلمات الشك والشرك، ودل على جمعه مع فرقه بقوله: {وكتاب} أي جامع {مبين} أي بين في نفسه، مبين لما كان خافيًا على الناس من الحق. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {يا أَهْلَ الكتاب} والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وإنما وحد الكتاب لأنه خرج مخرج الجنس، ثم وصف الرسول بأمرين:
الأول: أنه يبين لهم كثيرًا مما كانوا يخفون.
قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخفوا أمر الرجم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك لهم، وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابًا ولم يتعلم علمًا من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخبارًا عن الغيب فيكون معجزًا.
والوصف الثاني للرسول: قوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي لا يظهر كثيرًا مما تكتمونه أنتم، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالمًا بكل ما يخفونه، فيصير ذلك داعيًا لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا.
ثم قال تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ}.
وفيه أقوال:
الأول: أن المراد بالنور محمد، وبالكتاب القرآن، والثاني: أن المراد بالنور الإسلام، وبالكتاب القرآن.
الثالث: النور والكتاب هو القرآن، وهذا ضعيف لأن العطف يوجب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وتسمية محمد والإسلام والقرآن بالنور ظاهرة، لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة، والنور الباطن أيضًا هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكتاب} الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب؛ فجميعهم مخاطبون.
{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد صلى الله عليه وسلم.
{يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي من كتبكم؛ من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مُسخوا قِردة؛ فإنهم كانوا يخفونها.
{وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوتهِ، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه.
وقيل: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به.
وذكر أن رجلًا من أحبارهم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين؛ وإنما أراد اليهوديّ أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبيِّن له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبيِّن له ما سأله عنه.
{قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} أي ضياء؛ قيل: الإسلام.
وقيل: محمد عليه السلام؛ عن الزجاج.
{وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} أي القرآن؛ فإنه يبين الأحكام، وقد تقدّم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَا أَهْلِ الكتاب} التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب لانطواء الكلامِ المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب وللمبالغة في التشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} الإضافة للتشريف، والإيذانِ بوجوب اتباعه وقوله تعالى: {يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا، وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان، أي قد جاءكم رسولُنا حال كونه مبينًا لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة {كَثِيرًا مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمد عليه الصلاة والسلام، وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل، وتأخيرُ {كثيرًا} عن الجار والمجرور لما مر مرارًا من إظهار العناية بالمُقدَّم، لما فيه من تعجيل المَسَرَّة والتشويق إلى المؤخر لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لاسيما مع الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده، فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ، ولأن في المؤخَّر ضربَ تفصيل رمبا يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظم الكريم، فإن {مما} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لكثيرًا، و«ما» موصولة اسمية وما بعدها صلتُها، والعائدُ إليها محذوف، و{من الكتاب} متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، أي يبين لكم كثيرًا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والمتمسكون به {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي ولا يُظهر كثيرًا مما تخفونه، إذا لم تدعُ إليه داعيةٌ دينية صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح كما يُفصحُ عنه التعبير عن عدم الإظهار بالعفو، وفيه حثّ لهم على عدم الإخفاء ترغيبًا وترهيبًا، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلةٌ في حكمها، وقيل: يعفو عن كثيرٍ منكم ولا يؤاخذه، وقوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} جملة مستأنفةٌ مسوقةٌ لبيان أن فائدةَ مجيءِ الرسول ليست منحصرةً فيما ذُكر من بيانِ ما كانوا يُخفونه، بل له منافعُ لا تحصى، و{من الله} متعلقٌ بجاء، و«من» لابتداء الغاية مجازًا، أو بمحذوفٍ وقع حالًا من نور، وأيًا ما كان فهو تصريحٌ بما يشعر به إضافةُ الرسول من مجيئه من جنابه عز وجل، وتقديمُ الجار والمجرور على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية، والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوعَ تطويلٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم، كما في قوله تعالى: {وَجَاءكَ في هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} وتنوين {نور} للتفخيم، والمراد به وبقوله تعالى: {وكتاب مُّبِينٌ} القرآن، لما فيه من كشف ظلمات الشرْك والشك وإبانة ما خفِيَ على الناس من الحق والإعجاز البيِّن، والعطف لتنزيل المغايَرَة بالعنوان منزلة المُغايرة بالذات، وقيل: المرادُ بالأول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وبالثاني القرآن. اهـ.